• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المؤاخاة.. من السياسة الداخلية الحكيمة للرسول الأكرم «ص»

د. علي معطي

المؤاخاة.. من السياسة الداخلية الحكيمة للرسول الأكرم «ص»

◄لا شكّ في أنّ هجرة المسلمين من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة كانت تُمثِّل ذروة فدائهم في سبيل العقيدة والقضية الإسلامية. لأنّ هؤلاء المسلمين قد تركوا عائلاتهم وأولادهم وممتلكاتهم في مكّة موطنهم وأقبلوا على الدين الجديد، يطلبون فقط رضا الله والشهادة في سبيله.

والله تعالى يُذكِّر بشكل خاص بهذه الجماعة، ويقول في كتابه الكريم: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر/ 8).

وبالهجرة من مكّة إلى المدينة بدَّل الرسول الأكرم (ص) سياسته الداخلية من مرحلة تبليغ الإسلام والدعوة بالكلمة الطيِّبة والموعظة الحسنة فقط، إلى مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية وتدعيم أُسسها، واستفاد في هذا المجال من المناهج المختلفة التي صرَّح بها القرآن الكريم، فطبَّقها الرسول الأكرم (ص) أيضاً طوال إحدى عشر سنة – من الهجرة الشريفة حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى – .

بناءً على هذا، لم يكن الرسول الأكرم (ص) في المدينة رسولاً لله فقط، بل كان حاكماً وآمراً أيضاً. لذلك وجب لترتيب أمور ومسائل الناس أن تُبنى المؤسسات والدوائر الحكومية بالقدر الممكن، وقد أعقب ذلك انتشار تعاليم الإسلام داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها.

وللوصول إلى هذه الأهداف استخدم الرسول الأكرم (ص) مناهج في الحكومة وإدارة المجتمع لم يكن معمولاً بها قبله، هذه المناهج كانت تعتمد في السياسات الداخلية والخارجية والاقتصادية والعسكرية والتربوية على المفاهيم والأصول الإسلامية الجديدة.

فالسياسة الداخلية للرسول الأكرم (ص) كانت تعتمد على الأصول التالية:

أ) مساعدة ومعاونة المسلمين وأنموذجه نظام الأخوة بين المهاجرين والأنصار.

ب) بناء المسجد الجامع كموضع للصلاة وكمركز للحكومة والقيادة الإسلامية.

ج) تحديد وتمتين الروابط بين جميع العناصر المشكّلة لمجتمع المدينة.

 

-          نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:

المهاجرون وبسبب ابتعادهم عن موطنهم تحمّلوا في بداية دخولهم إلى المدينة صعوبات كثيرة وبشكل خاص أولئك الذين أبعدوا عن عائلاتهم وأولادهم ولم يكن لديهم قدرة على تحمل مناخ يثرب المتغير لأنّ طبيعة الصحراء الجافة والخالية من الماء والزراعة كانت حاكمة على مناخ مكّة الصافي والنقي، في حين أنّه كان للمدينة مناخ رطب ومزارع وأشجار وظلال بسبب وجود آبار الماء والبرك في أطرافها.

صيفها كان حاراً ورطباً وشتاؤها كان بارداً وممطراً، لذلك لم يستطع بعض المهاجرين مثل عائشة بنت أبي بكر وعامر بن مهيرة وغيرهما أن يتحمّلوا هذا المناخ وأصيبوا بالضعف والحمى[1].

فبلال كان يقول: "اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف اللذين أخرجانا من أرضنا إلى أرض الوباء"[2].

ولكن الرسول الأكرم (ص) طلب من الله تعالى أن يجعل وضع المدينة مقبولاً لدى المهاجرين وأن يعطيهم البركة فيها وأن يبعد عنهم الوباء والحمى، قال (ص): "اللهم حَبِّب إلينا المدينة كما حَبَّبتَ إلينا مكّة وبارك لنا في مُدِّها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة"[3].

ويظهر أنّ المشكلة الاقتصادية أيضاً كان لها أكبر تأثير على بعض المسلمين الذين هاجروا من بيوتهم ومنازلهم وأتوا إلى أرض مجهولة لم يكن لهم فيها حبيب أو صديق.

هذه المشكلة الاقتصادية اشتدّت وتفاقمت مع ازدياد عدد المهاجرين في يثرب إلى حدٍّ أنّه عندما كان يأتي إليهم ضيف ويرسله الرسول الأكرم (ص) إلى أصحابه وعائلته، فإنّهم كانوا لا يجدون لديهم الغذاء الكافي لهذا الضيف، وإذا سأل مسلم مسلماً طعاماً لسد الجوع فكان يراه وقد التصقت بطنه بظهره من شدّة الجوع، وكانت تمر ليالٍ على الرسول الأكرم (ص) لا يشعل في بيته ناراً ولا يطبخ طعاماً إلى حد أنّه في يوم من الأيام اضطرّ أن يرهن درعه عند شخص يهودي لأنّ الجوع كان يؤلمه (ص) ولم يكن في بيته حتى قليل من الشعير[4].

يقول أبو هريرة عن هذه المشكلة الاقتصادية ما مضمونه: "كنت تراني وقد وقعت بين منبر الرسول (ص) وبيت عائشة وأغشي عليّ وأتى شخص ووضع رجله على رقبتي وكان يظني أنني مجنون في حين لم أكن مجنوناً وكنت جائعاً فقط"[5].

ولإزالة هذه المشكلة أو على الأقل للتخفيف منها، وضع الرسول الأكرم (ص) نظاماً جديداً على أساس تعاون ومشاركة كافة الفئات.

خاصية هذا النظام كانت المشاركة العملية في كلّ الأمور، المشاركة الكاملة في الأفكار والعقائد، المشاركة الحقيقية في الأفراح والأتراح، المشاركة الكاملة في شؤون المأكل والملبس والمسكن.. وسمّى هذا النظام بـ"المؤاخاة" والله تعالى يذكر هذه الظاهرة أيضاً في القرآن الكريم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).

الرسول الأكرم (ص) أجرى بنفسه نظام المؤاخاة بين المسلمين لخمسة أشهر بعد الهجرة[6] وهذا النظام طُبِّق على مرحلتين: في المرحلة الأولى عَقَدَ الرسول الأكرم (ص) عَقْدَ الأخوة بين بعض المهاجرين مع بعضهم الآخر، وفي المرحلة الثانية طبق نظام الأخوة بين المهاجرين والأنصار[7].

والهدف من إجراء المرحلة الأولى كان إيجاد روح الألفة والأنس بين المهاجرين، وإزالة ألم الغربة عن قلوبهم[8].

وقد شرع الرسول الأكرم (ص) بنفسه، فقال لأصحابه: "تآخوا في سبيل الله أخوين أخوين، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب، فقال: هذا أخي"، ثمّ أجرى عقد الأخوة بين عمّه الحمزة بن عبدالمطلب وغلامه زيد بن حارثة إلى حد أنّ حمزة أوصى في يوم أُحُد أنّه إذا قُتل فإنّ أمواله تؤول لزيد بن حارثة[9].

وفي المرحلة الثانية التي عقد فيها عقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار، خاطب الرسول الأكرم (ص) الأنصار: "إنّ إخوانكم قدتركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم...". فأجاب الأنصار بصوت واحد: "أموالنا بيننا قطيع يا رسول الله"[10].

وقد عقد الرسول الأكرم (ص) عقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار على أساس رعاية الحقّ والعدالة والإرث بين بعضهم البعض بعد الموت – طبعاً غير الأرحام – وهذا الأمر قد كان قبل معركة بدر الكبرى[11].

ولكن بعد معركة بدر وانتصار المسلمين، حصل المسلمون على غنائم كثيرة ووجدوا حياة الراحة والوفرة[12].

ثمّ نزلت الآية الكريمة: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال/ 75)، فنسخ حُكم الإرث عن طريق عقد المؤاخاة، واعتبر إرث كلّ مسلم منوطاً برابطة قرابته بحيث أنّ قرابة وأقارب المتوفى السببيين والنسبيين هم فقط الذين يرثونه.

وقد وصل التعاون الإسلامي الأخوي إلى حد أنّ مجتمع المدينة تحوّل إلى ما يشبه المدينة الفاضلة – التي عرفها الفلاسفة وعلماء الاجتماع مثل أفلاطون والفارابي وآخرون، مع الفارق – كان الأنصاري يُشرك أخاه المهاجر في بيته وماله، وكان راضياً ومسروراً عن هذا العمل! إلى حد أنّ سعد بن ربيع الأنصاري اقترح على عبدالرحمن بن عوف أن يشركه في ماله وأن يُطلِّق إحدى زوجتيه حتى يتزوَّجها عبدالرحمن (هذه الواقعة أصبحت مضرباً للمثل بين الأنصار، حيث لا مثيل لها في كلّ تاريخ البشر)، فقال سعد لعبدالرحمن: "أنت أخي... وأنا أكثر الناس في المدينة مالاً، فانظر شطر مالي فخذه... وتحتي امرأتان فانظر أيهما أعجب لك حتى أطلقها"، فأجابه عبدالرحمن: "بارك الله لك في أهلك ومالك يا أخي، فإني لا أريد منك إلّا أن تساعدني في معرفة السوق هنا حتى أبيع وأشتري"[13].

سلوك بقية الأنصار مع إخوانهم المهاجرين لم يكن بعيداً عن سلوك سعد بن ربيع، فهم أيضاً كانوا يتعاملون مع المهاجرين بإنصاف، وكانوا يقدمونهم على عائلاتهم وقد أشركوهم في كلّ أموالهم وفي بيوتهم وممتلكاتهم وأراضيهم وأشجارهم.

في يوم من الأيام أتوا إلى الرسول (ص) وقالوا: "يا نبي الله! لقد بذلنا ما في وسعنا لنواسي إخواننا المهاجرين فيما آتانا الله من مال ولم يبقَ لنا إلّا النخيل، فاقسمه يا رسول الله بيننا وبينهم". فقال (ص): "لا، ويشركونكم في الثمرة"، قالوا: سمعنا وأطعنا يا رسول الله"[14].

المهاجرون أيضاً قدّروا محبّة وعواطف الأنصار الكريمة ولم يكونوا يثقلون عليهم، وكانوا يسعون بأنفسهم لطلب المعاش والكسب اليومي. فالبعض عمل بالتجارة مثل عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وذلك في أسواق المدينة، والبعض الآخر مثل أبي بكر وعمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب اشتغل في أراضي الأنصار بالزراعة، والآخرون توجّهوا إلى أعمال أخرى كانت صعبة وقاسية. وقد قال الرسول الأكرم (ص) للأنصار: "مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه"[15].

والمهاجرون على الرغم من هذه المساعي، أتوا خائفين ومضطربين إلى رسول الله (ص) وقالوا: "يا رسول الله! ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسنَ مؤاساة في قليل، ولا أكثر بذلاً من كثير، لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا في الأجر كلّه". فقال الرسول (ص): "لا، ما أثنيتهم عليهم ودعوتم الله لهم"[16].

أهل يثرب لم يكونوا قد رأوا سابقاً نظاماً للأخوة كهذا، لذلك كان بالنسبة إليهم وإلى مجتمع العرب الذين قطعت الحروب والنزاعات القبلية علاقاتهم وروابطهم، وأيضاً بالنسبة إلى المجتمعات البشرية المعتمدة على العصبية كان ذا فائدة ومنافع مادّية ومعنوية بحيث أنّ نظام الأخوة كان نظاماً فريداً وظاهرة جديدة.

وعلى كلّ حال، طَبَّقَ الرسول الأكرم (ص) نظام المؤاخاة في أُمّته وأجاز للأشخاص الذين لا يملكون أرضاً أن يبنوا بيوتاً لهم في الأرض غير المملوكة أو الأراضي التي أعطاها الأنصار له.

ولأنّ عدد المهاجرين ازداد في المدينة وأكثرهم كانوا من الفقراء مثل أبي ذر الغفاري وأبي هريرة حيث لم يكن لديهم لا مسكن ولا طعام، فإنّ الرسول (ص) أعطاهم مكاناً في صفّة المسجد[17]، ولذلك اشتهروا بأهل الصفّة والرسول الأكرم (ص) كان يطعم بعضهم بنفسه، وأوكل طعام البعض الآخر إلى عهدة الصحابة الذين كان لديهم القدرة على ذلك[18].

ويظهر أنّ أهل الصفّة كانوا الأكثر استفادة من إقامتهم الدائمة في مسجد الرسول (ص) لأنّهم كانوا حاضرين هناك معظم الأوقات في خدمة الرسول الأكرم (ص). ومن ناحية النظر العلمي والفقهي، فقد أدركوا الكثير من فيضه (ص) إلى حد أنّه ظهر منهم العلماء والفقهاء الذين خدموا الإسلام والمسلمين.

بشكل عام نظام المؤاخاة هذا جعل المهاجرين يتحمّلون مصاعب الهجرة كالغربة ونقص الأموال والفقر، وأوجد الوحدة بين المسلمين في يثرب حيث بدَّل المصاعب الحياتية إلى يُسر وسعة والعداوة إلى مودّة، ولذلك تحوّل المسلمون إلى قوذة عظيمة في مقابل كفّار مكّة والمشركين.

وكان هذا هو الإنجاز الكبير والفريد من نوعه الذي حققه الرسول الأكرم (ص) في سياسته الداخلية على طريق إرساء القواعد الإيمانية السليمة للمجتمع الإسلامي الذي بدأت نواته الأولى في المدينة المنوّرة.►

 

الهوامش

[1] - أبوالحسن البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق: رضوان محمد رضوان، بيروت، 1978م، ص25.

[2] - أمين دويدار، صور من حياة الرسول (ص)، ط4، القاهرة، ص283.

[3] - ابن هشام، ج2، ص239، ط. بيروت، دار إحياء التراث العربي. محمد رضا، محمّد رسول الله (ص)، بيروت، ص143.

[4] - محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة، ج1، بيروت، ص286-306.

[5] - م.ن، ص299.

[6] - محمد رضا، محمّد رسول الله (ص)، ص149.

[7] - أبو عبدالله محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق الدكتور سترستين، بيروت، 1957، ص238.

[8] - محمّد رسول الله (ص)، ص149.

[9] - ابن هشام، ج2، ص151، دار إحياء التراث، بيروت.

[10] - سميح عاطف الزين، خاتم النبيين محمّد (ص)، بيروت، 1983، ج2، ص31-32.

[11] - البداية والنهاية، ج2، ص226. تقي الدين أحمد المقريزي، إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع، تحقيق: الأستاذ محمد شاكر، القاهرة، 1941، ج1، ص49.

[12] - طبقات ابن سعد، ص238.

[13] - محمّد خاتم النبيين، ج2، ص36.

[14] - المصدر نفسه، ص38.

[15] - م.ن، ص37.

[16] - م.ن، ص39.

[17] - محمّد رسول الله (ص)، ص154.

[18] - طبقات ابن سعد: ج1، ص255.

المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 31 و32 لسنة 1992م

ارسال التعليق

Top